الحركة النسوية العالمية- هيمنة متصاعدة وتغيير جذري للمجتمع

حققت الحركة النسوية العالمية نجاحًا باهرًا في التوغل إلى شتى مراكز النفوذ والقيادة في مختلف دول العالم، سواء كانت متقدمة أو نامية. وقد بلغ هذا الازدهار ذروته بالضغط الفعال على منظمة الأمم المتحدة، مما أسفر عن تبنيها لمبادئها ورؤاها، وتأسيس هيئة متخصصة تحت مسمى "هيئة الأمم المتحدة للمرأة". علاوة على ذلك، تم إدراج هدف "المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة" ضمن أهداف التنمية المستدامة، مما فتح آفاقًا واسعة أمام هيئة الأمم المتحدة للمرأة للعمل بدأب ليلًا ونهارًا على تحقيق غايات الحركة النسوية العالمية بوسائل دستورية وقانونية، مستندة في ذلك إلى التزامات الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بموجب العهود والمواثيق الدولية التي أقرتها ووقعت عليها.
لم تعد الحركة النسوية مجرد حراك يسعى لمساندة المرأة الغربية في نيل حقوقها الجوهرية كحق الانتخاب والتعليم والعمل بتكافؤ مع الرجل، بل استحالت إلى قوة عالمية عاتية ومسيطرة، تستميت لتغيير المنظومة الاجتماعية البشرية برمتها، وإملاء تصوراتها على شعوب العالم بأسلوب جذري وتغييري.
إن موضوع الحركة النسوية العالمية أوسع بكثير من أن يتم تناوله باستفاضة في مقال واحد، إذ يتطلب ذلك مجلدات ضخمة وجهودًا بحثية مضنية للإحاطة بجميع جوانبه. بيد أن ذلك لا يحول دون إلقاء الضوء على بعض الزوايا الهامة، التي تسهم في كشف حقيقة حجم هذه الحركة، ومدى تفشيها وتجذرها، ونفوذها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وذلك بدءًا باستعراض تطورها التاريخي، ومرورًا بتقييم حجم انتشارها ونفوذها المتزايد، وصولًا إلى فهم المنطلقات الفكرية التي تستند إليها.
ترقبًا للموجة الخامسة
انطلقت شرارة الحركة النسوية في كل من أوروبا والولايات المتحدة، وتعود جذورها التاريخية إلى القرن السابع عشر، حيث تجسدت في صورة مطالب متفرقة ومحدودة أطلقها بعض النشطاء والأدباء والكتاب، الذين كانوا يدافعون عن المرأة ومكانتها الرفيعة، ويرفضون الصور النمطية السائدة عنها في الثقافة الاجتماعية المهيمنة وامتداداتها الكنسية في تلك الحقبة الزمنية. وقد تسببت هذه الصور النمطية في إعدام ما يقارب 50 ألف امرأة -وفي بعض الروايات يصل العدد إلى 500 ألف امرأة- في أوروبا والولايات المتحدة خلال الفترة الممتدة بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر، بتهمة ممارسة أعمال السحر والشعوذة. وقد جاءت هذه المطالبات والدعوات في ذلك الوقت، كرد فعل على فكرة حصر دور المرأة في نطاق الأسرة والمنزل والأطفال، بينما ينفرد الرجال بالسياسة والحرب والعمل المأجور في القطاعات المختلفة. وقد رصد المؤرخون والباحثون أربع موجات رئيسية مر بها التطور التاريخي للحركة النسوية، وذلك على النحو التالي:
الموجة الأولى: الحق في الاقتراع
تشمل هذه الموجة الفترة الممتدة من أواخر القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين، وهي فترة اتسمت بالتوسع الاستعماري المتسارع، والتقدم الهائل للثورة الصناعية، وشهدت اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية وما خلفتاه من آثار وخيمة على تركيبة المجتمع الغربي. فقد فقدت المجتمعات الغربية ما يزيد على 24 مليون رجل في الحرب العالمية الثانية وحدها، مما اضطر النساء إلى تولي مهام وأعمال الرجال الذين انخرطوا في الحروب. وقد تركزت المطالب النسوية في الغالب حول حق المرأة في الاقتراع، حيث كانت الانتخابات آنذاك حكرًا على الرجال. وشهدت هذه الموجة أيضًا بواكير تشكيل العديد من التجمعات والمنتديات والمؤسسات النسوية التي تنادي بحقوق المرأة، وخاصة الحق في الاقتراع والتعليم. وبدأت أفكار هذه الموجة تنتقل تدريجيًا من الدول الغربية إلى مناطق أخرى من العالم في قارات آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، لا سيما عقب صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن الأمم المتحدة، وتضمين حقوق المرأة ضمن أبرز بنوده.
الموجة الثانية: المساواة الكاملة بين الجنسين
انطلقت هذه الموجة في ستينيات القرن الماضي، وشهدت اتساعًا ملحوظًا في دائرة الاهتمام بها والتجاوب مع مطالبها على المستويين الرسمي والشعبي. كما شهدت هذه الفترة ازديادًا في وتيرة تشكيل المؤسسات والاتحادات والتجمعات النسوية، واهتمامًا متزايدًا بها في وسائل الإعلام المختلفة والأعمال الأدبية والفنية. وقد ركزت هذه الموجة بشكل خاص على قضية تحقيق المساواة الكاملة بين الجنسين في مختلف المجالات.
الموجة الثالثة: الحرية الجنسية وقضايا المثلية
بدأت هذه الموجة في تسعينيات القرن الماضي واستمرت حتى عام 2010، وكانت تهدف إلى معالجة الإخفاقات التي شابت الموجة الثانية، ومواجهة التحديات التي تواجه الحركة النسوية في مختلف المجالات وعلى جميع المستويات. وقد اتسعت دائرة النشاط لتشمل المجتمعات الفقيرة والفتيات الشابات، كما تبنت هذه الموجة دعم الحرية الجنسية بشكل صريح، واحتضنت قضايا المثلية الجنسية، واستقطبت المنتسبات إليها، ودافعت عن حقوقهن بقوة. بالإضافة إلى ذلك، شددت هذه الموجة على حق المرأة في تحديد النسل، بوصفه ضرورة حتمية لتحقيق الاستقلال الاقتصادي عن الرجال. وقد صدر في هذه الفترة عن الأمم المتحدة ما يعرف بـ"منهاج عمل بكين" في عام 1995، والذي يعتبر بمثابة المرجع الأساسي لكافة الأعمال والجهود المطلوبة لتحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة في جميع أنحاء العالم.
الموجة الرابعة: التمكين الشامل
انبثقت هذه الموجة في عام 2012، وذلك بعد إطلاق هيئة الأمم المتحدة للمرأة في عام 2010، وقد تركز اهتمامها على قضية تمكين المرأة في شتى مجالات الحياة المختلفة، على قدم المساواة مع الرجل، دون تمييز بين مجال وآخر، أو مستوى وآخر. بالإضافة إلى ذلك، سعت هذه الموجة إلى تحقيق التغيير الشامل في المجتمعات، ومحاربة جميع أشكال التمييز ضد المرأة. وقد ساهم ظهور منصات التواصل الاجتماعي المتنوعة، وانتشار المنتديات التي تعنى بمقاومة التحرش، في تعزيز نشر القيم والأفكار والسلوكيات الإيجابية، وتوسيع دائرة التأييد على كافة المستويات وفي جميع دول العالم. فعلى سبيل المثال، قامت الحركة النسوية في لندن في عام 2013 بتنظيم تظاهرة مليونية حاشدة احتجاجًا على تقرير صادر عن الأمم المتحدة، والذي ذكر أن واحدة من بين كل ثلاث نساء معرضة للتحرش والضرب في العالم. وقد تمكن المنظمون من تحويل هذه التظاهرة إلى فعالية عالمية ضخمة بمشاركة مؤيدين من 207 دول، وذلك عبر شبكة الإنترنت.
الموجة القادمة المنتظرة
تسيطر الحركة النسوية العالمية في الوقت الراهن على منظمة الأمم المتحدة بشكل كامل، وقد تمكنت –عن طريق العديد من الوسائل والأساليب الضاغطة– من إجبار الأمم المتحدة على تبني أفكارها ومبادئها، وتحويلها إلى قرارات وخطط واتفاقيات تتبناها الأمم المتحدة رسميًا. ويتم مراجعة مستوى التقدم المحرز في تنفيذ هذه القرارات والخطط سنويًا مع ممثلي الدول الأعضاء. وتترقب الحركة النسوية العالمية الآن تحقيق أهدافها فعليًا بصورة كاملة بحلول عام 2030، وذلك ضمن إطار أهداف التنمية المستدامة. بل إن "منتدى جيل المساواة" (Generation Equality Forum)، الذي ينعقد سنويًا في كل من المكسيك وفرنسا بتنظيم من هيئة الأمم المتحدة للمرأة، قد وضع خطة أكثر طموحًا لتسريع وتيرة تحقيق المساواة بين الجنسين، والتمكين الكامل للمرأة بحلول عام 2026، وذلك بتمويل وصل إلى نحو 40 مليار دولار أمريكي.
وتأكيدًا على الأهمية الكبيرة لهذا الموضوع، أقتبس هنا عبارة المنتدى الموجهة للعالم: "بصفتها نصيرة عالمية للنساء والفتيات، تقف هيئة الأمم المتحدة للمرأة في صميم تعبئة الحكومات والمجتمع المدني، للوفاء بوعود منهاج عمل بكين للمجتمع بأسره. ويقدم منتدى جيل المساواة الفرصة للجمع بين صانعي التغيير من جميع الأعمار والأجناس، من جميع أنحاء العالم، لمعالجة الأعمال غير المكتملة المتمثلة في تمكين المرأة، وعدم ترك أي شخص يتخلف عن الركب".
إن الدول الأعضاء والمجتمع المدني والقطاع الخاص وكيانات الأمم المتحدة مدعوة للانضمام إلى هذه الجهود الحثيثة التي تقودها هيئة الأمم المتحدة للمرأة، والمساهمة الفعالة في هذه اللحظة التاريخية الهامة. وتسخر الأمم المتحدة كافة إمكاناتها وقدراتها الهائلة عبر جميع وكالاتها – وعلى رأسها هيئة الأمم المتحدة للمرأة – لتسريع تحقيق الأهداف المرجوة والوصول إلى هذه اللحظة التاريخية الحاسمة. وعلى مدار الساعة، تحقق الهيئة العديد من الإنجازات الملموسة في هذا الصدد. ونشير –على سبيل المثال لا الحصر– إلى الحملة العالمية التي أطلقتها في سبتمبر/أيلول عام 2014 تحت شعار "هو من أجلها" (HeForShe)، والتي تسعى إلى توسيع نطاقات التأييد والتغيير الإيجابي في الفكر الاجتماعي والقيمي والسلوكي، ليس على مستوى الفتيات والنساء فحسب، بل على مستوى الشباب والرجال أيضًا. فقد بلغ عدد الناشطين الملتزمين معها نحو 3 ملايين ناشط حول العالم، بالإضافة إلى 600 مليون شخص يمثلون شركاء للهيئة في مختلف دول العالم. كما تشهد منصات التواصل الاجتماعي ملياري محادثة نقاشية حول هذا الموضوع سنويًا.
وسواء أكانت هذه اللحظة التاريخية المنتظرة ستتحقق في عام 2026 أم في عام 2030، فإنها ستمثل علامة فارقة ومحطة مفصلية في تاريخ المجتمع البشري برمته. وقد تبدأ مع هذه اللحظة الموجة الخامسة للحركة النسوية العالمية، والتي ستكون أكثر تمكنًا وسلطة ونفوذًا عبر تاريخها الطويل. فكيف ستكون أبرز ملامح هذه الموجة؟ وماذا ستكون أهم أولوياتها وأهدافها المستقبلية؟
لم تعد الحركة النسوية مجرد نشاط حقوقي يسعى إلى مساعدة المرأة الغربية في الحصول على حقوقها الأساسية، كالحق في الانتخاب والتعليم والعمل بتكافؤ مع الرجل، بل تحولت إلى حركة عالمية ضخمة ومهيمنة، تصرّ بعناد على تغيير النظام الاجتماعي البشري، وفرض أفكارها ومعتقداتها على شعوب العالم بأسلوب ثوري وتغييري جذري. فمن يقف وراء هذه الحركة الجبارة؟ ومن أين استمدت هذه الأفكار الجريئة؟ وما هي الغايات والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها من وراء ذلك؟
يتبع… (من وراء النسوية العالمية؟)